أفعال العباد بين الأشاعرة والمعتزلة

6 08 2009

الجير والاختيار

إن أفعال العباد لم تزل موضع إشكال منذ القدم, فهي ليست وليدة اليوم أو الأمس. فقد سبق ظهورها ظهور الإسلام فتعرضت لها الأمم السابقة كما تعرض لها المفكرون المسلمون. وإذا نظرنا إلى موقف المفكرين الإسلاميين من هذه القضية رأينا مواقف عدة متناقضة, و يرجع ذلك إلى الأدلة التي بنى عليها كل من أصحاب الكلام مواقفهم. ففي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة نوعان من الأدلة:

  • o الأول: يشير وبصراحة إلى ان كل ما في الكون هو بقدرة الله سبحانه وتعالى وحده, وأنه لا مدخل للقدرة الإنسانية في أي شيء من الأشياء حتى أفعاله نفسها.
  • o الثاني:  يشير إلى أن للإنسان قدرة يستطيع بها ان يقوم بأفعال معينة, مما يثبت للإنسان الفعالية. وخصوصا إذا ما نظر إلى هذه القضية من جانب آخر وهو حساب الإنسان على تلك الأفعال, مما يجعل من اللازم إثبات تلك المقدرة وإلا صرنا إلى نسب الظلم لله عز وجل _تعالى الله عن ذلك علوا كبير_.

فنتيجة لهذه الأدلة المتعارضة في الظاهر, وغموض المسألة, ورد التعارض في المواقف بين المتكلمين. فتمسك معبد وغيلان بالنصوص التي تشير لحرية الإنسان وقدرته, وتابعهم على ذلك المعتزلة. وفي المقابل نجد الجهم بن صفوان قد تمسك بالأدلة التي تنفي قدرة الإنسان مطلقا وقد جاء مذهب الأشعري قريب من هذا الموقف حتى سمي كسبه بالجبر الخفي وفيما يلي نفصل قول المعتزلة والأشعري على حد سواء.

فقد ذهب المعتزلة إلى أن الإنسان خالق  لفعله بمعنى انه يوجده بقدرته وإرادته مستقلا بذلك عن القدرة والإرادة الإلهية فالله سبحانه وتعالى لا يريد من العبد المعاصي ومع ذلك فهي تقع من العبد بإرادته وحده وهكذا يمكن على حسب قولهم وقوع ما لايريده الله سبحانه وتعالى في ملكوته وقد انطلق المعتزلة في قولهم هذا من ان الله سبحانه وتعالى حكيم ولا يصح أن يفعل عبثا, وخلقه للعالم بلا غرض ولا حكمة نوع من العبث لا يجوز عليه. بل  إن “إرادته لاختراع الخلق إنما حسنت لأنها إرادة لخلقهم لينفعهم أو إرادة لخلق ما ينفع به, أو إرادة لخلق الشيء للأمرين جميعا”.([1]) فالحكمة من خلق العالم في رأي المعتزلة هي إيصال النفع والمنفعة لمن في هذا العالم ولما كان الإنسان هو أكرم من قد خلقه الله عز وجل _ ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدم ﴾[الإسراء:70] _ على ظهر الأرض فأن النفع المقصود إيصاله لهذا الإنسان إنما هو التكليف. لأن التكليف في نظر المعتزلة إنما هو نوع من المنفعة التي يعرض الله سبحانه وتعالى الإنسان لها وإن لم يستطع الإنسان من القيام بأفعاله مستقلا عن الله سبحانه وتعالى لم يكن هناك للتكليف معنى على الإطلاق ويكون الفاعل على الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ويكون ثوابه أو عقابه للعباد على شيء لم يفعلوه هم.

وقد استدلوا من القرآن الكريم بآيات كثيرة جدا مبثوثة في مواضع متفرقة ولذلك فقد قسمتها إلى أنواع يندرح تحت كل نوع عدد معين من الآيات وأكتفيت بذكر أمثلة على هذا النوع:

1- عموم النصوص التي تثبت للإنسان الإرادة الحرة كقوله تعالى : :﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾[الإنسان:29]وقوله:﴿وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا﴾[الأعراف:19]

2- الآيات التي تثبت  فعل الخلق للإنسان :﴿وتَخْلقُون إِفْكاً﴾[العنكبوت:17] وقوله تعالى:﴿أنِّي أَخْلُق لكم من الطين﴾[آل عمران:49]

3- عموم الآيات التي تشير إلى أنه سبحانه وتعالى لا يريد المعاصي ومنها قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56] وقوله تعالى:﴿وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ[الأعراف:28] فقد بين سبحانه وتعالى أنه لا يريد المعاصي من العباد وأن من وقعت منه المعصية أنما قد وقعت بخلقه لا بخلق الله سبحانه وتعالى لها

4- عموم الآيات التي تنص على أن خلق الله سبحانه وتعالى يخلو عن النقائص ومنها قوله تعالى: ﴿مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾[الملك:3] وقوله عز وجل: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾[السجدة:7] فقد أخبر سبحانه وتعالى أن لا تفاوت في خلقه, وأن أفعاله التي خلقها جميعها حسنة. ومن المشاهد أن أفعال العباد تتضمن التفاوت, والخلل وكذلك فأن من أفعالهم القبيح. مما يدل على أن تلك الأفعال إنما هي من العباد أنفسهم, لا من خلق الله عز وجل.

5- عموم النصوص التي تثبت للإنسان الاختيار والقدرة على الفعل, مما يشعر بأن الإنسان قادر على خلق فعله, وإيجاده مستقلا عنه سبحانه وتعالى. ومن تلك النصوص قوله تعالى:﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً[الإسراء:94] وقوله تعالى:﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم

6- عموم الآيات التي تنسب المعاصي والقبيح من الأفعال إلى العباد, أو إلى الشيطان, مما يدل على وقوعها من العباد أنفسهم. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾[القصص:15] ثم قال الله تعالى على لسان موسى بعد أن قام بهذا الفعل﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي﴾[القصص:16] فلو كان الفعل من الله لما نسب فعل الظلم إلى نفسه, إذ أنه سيكون مجبرا على هذا الفعل ولا اختيار له.  ومن ذلك أيضا قوله تعالى عن يونس عليه السلام: ﴿ِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[الأنبياء:87]


وفي مقابل مذهب المعتزلة نجد مذهب الأشعري رحمه الله الذي كان أحد المعتزلة ثم رجع عن مذهبهم وأعلن انتهاجه نهجا جديدا حيث ذهب إلى أن أخص صفة لله سبحانه وتعالى هي الخلق ولا يشاركه في هذه الصفة مخلوق فهي صفة للخالق وحسب. أما الإنسان فإنه يقدر على الكسب ولا يقدر على الفعل ولهذا لا يصح تسمية الإنسان فاعلا وإنما يطلق عليه لفظ كاسب وقد حاول الأشعري شرح نظريته بالكسب حيث بين أن الفعل الإنساني يتوقف على أمرين الأول الإرادة والثاني القدرة

فحين يريد الإنسان وقوع فعلا ما على وجه ما ويجزم بإراته على هذا النحو تتجه قدرته إلى إيجاد الفعل وقدرة الإنسان قدرة قادرة على الاستقلال بإيقاع الفعل إلا أن هذه القدرة حيتما تقارب من إيقاع الفعل يصرفها الله سبحانه وتعالى عن إيجاده ويوجده هو سبحانه وتعالى لأن الخلق صفته وليس لأحد غيره.

وقد انتقد الأشعري لقوله بقدرة لا تأثير لها مما يعني أن الإنسان لا يزال مجبرا ويمكن ان نتفهم ان هذا نوع من النظرة القاصرة بعض الشيء لأن الأشعري لم يعلق الفعل الإنساني على القدرة غير المؤثرة وحسب بل علقها أيضا على الإرادة التي تخصص فعلا من بين الأفعال عامة وتزيد هذا التخصيص بتخصيصه على صفة معينة كذلك .

وقد ذهب الأشعري كنتيجة منطقية لما تقدم إن إرادة العبد لا تخالف إرادة الله سبحانه وتعالى ففي هذا الكون لا يكون إلا ما يريده الله سبحانه وتعالى

وقد استدل الاشعري كذلك بعدد كبير من النصوص يدخل في نطاقها عدد من النصوص التي استدل بها المعتزلة ولكن يختلف توظيف الدليل ما بين المعتزلة وما بين الأشعري فالمعتزلة يوظفه للخلق والاشعري يوظفه للكسب  واهم ما انفرد به الاشعري من الأدلة لتثبت معنى الكسب :

1- إن الله سبحانه وتعالى قد قال ﴿ والله خلقكم وما تعملون [الصافات :96] وقال أيضا ﴿ جزاء بما كانوا يعملون[الواقعة : 24] فلما كان الجزاء واقعا عليهم, واستحال أن يكونوا هم الخالقين, ثبت أن لهم مدخلا في أفعالهم وهو الكسب

2- أن الله سبحانه وتعالى قد سمى قدرة العبد استطاعة :﴿ واعدوا لهم ما استطعتم من قوة[الأنفال::60] وكذلك في قوله :﴿ من استطاع إليه سبيلا [آل عمران:97] وقوله : ﴿ لو استطعنا لخرجنا معكم[التوبة: 42] أما قدرة الله سبحانه وتعالى فلا تسمي بالاستطاعة وذلك لأن التوقيف لم يرد بذلك  وأهل اللغة لا يفرقون بين المعنيين.

3- إن الله سبحانه وتعالى قد سمى العبد كاسبا في العديد من الآيات: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وقوله (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وقوله (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) وقوله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ) وقد تعددت المواضع بذكر الكسب حتى بلغت سبع وخمسين موضعا في القرآن الكريم.

4- الآيات التي تبين توقف افعال الإنسان ومشيئته على مشيئة الله سبحانه وتعالى كقوله تعالى {ولوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} وقوله تعالى { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله ربنا} وقوله { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}وقوله { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ }

الرأي الخاص

ومن استعراض كل من موقف الأشعري والمعتزلة نرى أن الفعل الإنساني لا بد من أن يكون واقعا بطريقة ما من الإنسان وإلا فإن الأمر والنهي والثواب والعقاب كله لن يكون له معنى ولن يكون ذلك إلا كأن اكلف مقعدا بالجري ثم اعقابه إن لم يستطع ذلك.

ولكن على ما يبدو ان كل من الاشعري والمعتزلة قد حاولوا مقاربة الصواب قدر ما استطاعوا فأصابوا في ناحية وأخطؤوا في أخرى.

فالمعتزلة أخطؤوا حين اثبتو إرادة للإنسان تخالف إرادة الله فجعلو الإنسان قادرا على مجابهة الإرداة الإلهية فقد هربوا من قولهم ((هل يعصى الله بإرادته)) فأجيبوا ((وهل يعصى الله قهرا !!)) فكان ما هربوا منه اهون مما وصلوا إليه

وكذلك الأشعري قد علق فعل الإنسان على أمر خفي على كثير من الناس فما هو هذا الكسب وما مدى تأثيره وكيف لا يكون الإنسان فاعلا وهو كاسب وكيف نفرق بين الاستطاعة والقدرة !!

وعلى ما يبدو أن التقارب بين المذهب الاعتزالي والمذهب الاشعري في المراحل التالية لعصر الأشعري قد ساعدت على حل هذه القضية وقد تجلى ذلك في موقف إمام الحرمين الجويني الاشعري المذهب. فقد ذهب إلى ان الإنسان فاعل لفعله على الحقيقة وهو يوجده بقدرته مستقلا عن الله سبحانه وتعالى ولكن هذه القدرة التي أوجد بها الإنسان فعله هي من إيجاد الله سبحانه وتعالى فيه, فالله سبحانه وتعالى قد اعطاه تلك القدرة ليوقع بها أفعاله وفي والوقت نفسه فإن إرادة الإنسان لاتخالف إرادة الله سبحانه وتعالى ولا يكون في هذا الكون إلا ما يشاءه الله سبحانه وتعالى.



[1] المغني في أبواب العدل والتوحيد. 11\127تأليف: القاضي عبد الجبار الأسد آبادي. تحقيق: محمد علي النجار, د. عبد الحليم النجار. نشر: المؤسسة المصرية العامة – القاهرة – طبعة1960.